اقتصاديون من الزمن اللي فات (2) | جان بابتيست ساي

هل تذكرون من هو رائد مدرسة الحرية الاقتصادية؟!

نعم، هو آدم سميث الملقب عادة بـ”أبو الاقتصاد الحديث”، المدافع الشرس عن المبدأ الأسمى لاقتصاد السوق ألا وهو الحرية الاقتصادية، هذا المبدأ لم يدافع عنه وحده بل شاركه في ذلك مجموعة من الاقتصاديين الذين عاصروه، وقد أُطلق على هذه المجموعة اسم المدرسة الكلاسيكية أو بصيغة أبسط، الكلاسيكيون.

لا يختلف اثنان على فضل المدرسة الكلاسيكية ودورها المحوري في بناء النظرية الاقتصادية الحديثة، فيمكن اعتبار روادها من الآباء المؤسسين للنظرة الاقتصادية المبنية على مبدأ الحرية والمسماة باقتصاد السوق.
في المقال السابق عن آدم سميث، ذكرنا أبرز روادها ألا وهو الاقتصادي الاسكتلندي “آدم سميث” على أن نستكمل تقديم زملاءه الأبرز في هذا المقال والمقالات القادمة، لننتقل إذن لثاني أعضاء نادي الكلاسيك “جون بابتيست ساي”

جون بابتيست ساي -Jean-Baptiste Say

ولد جون باتيست ساي- الاقتصادي ورجل الأعمال الفرنسي الشهير- في  الخامس من يناير عام1767، في مدينة ليون الفرنسية، بدأت رحلة ساي مع الاقتصاد منذ الصغر؛ حيث أراده أبواه أن يسلك طريق التجارة فأرسلاه وأخيه (الذي كان اقتصاديا أيضا بالمناسبة) عام 1785 إلى إنجلترا ليكمل دراسته النظامية، حيث التحق بمدرسة خاصة في لندن، وعمل بعدها عند أحد تجار المدينة، وعقب وفاة رب عمله عاد إلى فرنسا واشتغل بإحدى مؤسسات التأمين على الحياة، تزوج جون بعدها ثم اشتغل محررًا في إحدى الدوريات الفرنسية التي دافعت بشراسة عن أفكار “آدم سميث”.

دروس في الاقتصاد السياسي

بعد نيله سمعة جيدة كمحرر، نشر جون باتيست ساي سنة 1803م أشهر كتبه “دروس في الاقتصاد السياسي: عرض بسيط لكيفية تشكيل وتوزيع تكوين الثروات” والذي يُعد واحدًا من المراجع الرئيسية في علم الاقتصاد وتلاه بسلسلة من الكتب ككتابه «تعليم الاقتصاد السياسي» عام 1815م، و«الدروس الكاملة في الاقتصاد السياسي التطبيقي» عام 1828و1829م

الحرية مبدأ، والمبادئ لا تتجزأ!!

رفض ساي تأييد النظام الإمبراطوري وبقي مُعَارَضًا ومُضطهدًا من السلطة الرسمية، ولم تتح له فرصة الكتابة والنشر إلا بعد تجديد أفكار الثورة وقيام حكومة القناصل، وكان لهذه الأحداث أثرها الكبير في تكوينه الفكري وبقيت ملازمة له طول حياته.
في عام 1819م عُين أستاذًا في معهد الفنون الجميلة والحرف، وسُمي أستاذًا للاقتصاد السياسي في المدرسة الفرنسية، ثم عين بعد ذلك عضوا في الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم.

تأثره بــ” أبو الاقتصاد السياسي”

أسهم “جان باتيست ساي” إسهامًا فعّالًا في تطوير الفكر الاقتصادي حتى صح ما قاله فيه أدولف بلانكي: «لقد اكتشف آدم سميث حقائق العلم الأساسية التي كان بعض الاقتصاديين قد لامسوها بصعوبة في القرن الثامن عشر، لقد أوضح “سميث” هذه الحقائق على نحو رائع غير أن كتابه المقصود «ثروة الأمم» الخالد كان في حاجة إلى تبسيط؛ ليكون في متناول كل المستويات وكل الشعوب، فقد كانت تنقص الكتاب بعض التوضيحات الأساسية كما أن بعض المسائل الهامة جدًا لم تكن في مكانها المناسب من الكتاب، أما “جان باتيست ساي” فقد وضع كل شيء في مكانه، وأوجد المصطلحات، وقوَّم التعريفات، وأعطى لعلم الاقتصاد قاعدة صلبة في الوقت نفسه ضبط حدوده بدقة». الموسوعة العربية / الاقتصاد : أعلام و مشاهير / المجلد العاشر ص 637

قانون ساي!

قانون الأسواق، المنافذ، تصريف المنتجات، كلها أسماء للقانون الذي يطلق عليه غالبا قانون ساي تيمنًا بالاقتصادي الفرنسي بطل مقالنا هذا، يشير هذا القانون إلى المبدأ الأشهر للمدرسة الكلاسيكية في الاقتصاد ألا وهو أن إنتاج سلعة في السوق يخلق كمية استهلاك متطابقة لها، أو ببساطة: العرض يخلق الطلب.

بتعبير ساي الخاص في كتابه الأشهر: في نفس اللحظة التي ينتج فيها منتج ما، يتم توفير سوق لمنتجات أخرى بنفس قيمة المنتج.
صحيح أن لغة القرن الثامن عشر صعبة و عصية على الفهم، لكن القانون بسيط في ذاته إذا تم فهمه بالطريقة المناسبة .
يتلخص القانون في محورين:

أولهما: أن عرض البضاعة يخلق بذاته طلبًا مقابلًا له (ما يعني أن كل منتج جديد يخلق بذاته قوة شرائية توفر له سوقًا أو منفذًا) وأن البضائع، في رأيه، تبادل ببضائع أخرى.

لنأخذ مثالًا بسيطًا: فالنجار الذي يصنع كرسيا أو طاولة، سيقوم ببيعه ثم سيشتري بثمنه سلعة أخرى، ففي اللحظة التي أنتج فيها النجار الكرسي، فقد قام بدون وعي منه بخلق طلب على سلعة أخرى في سوق آخر، ليكن سوق الملابس مثلًا. و بذلك خلق العرض (إنتاج الكرسي وعرضه في سوق الكراسي) الطلب الخاص به (وليكن الطلب على معطف كان يحتاج النجار إلى شرائه بعد تمزق معطفه القديم)

ثانيهما: أن دور النقود في النظام الاقتصادي لا يتعدى أن يكون “عربة لنقل قيم المنتجات” من فاعل اقتصادي إلى آخر، أي أن النقود لا تُطلب إلا لتحويلها إلى سلع (استخدامها كوسيط للتبادل).

وبهذا يكون قانون ساي الشهير هو: أن السلع تتم مبادلتها مقابل السلع، فإنتاج سلعة ما وعرضها في سوق معين يخلق في نفس الوقت طلبا على سلعة بنفس القيمة في سوق آخر.

لماذا سقطت بورصة وول ستريت؟

ذكرنا في المقال السابق رواد مدرسة “آدم سميث” وقفوا عاجزين عن تفسير أغلب الأزمات الاقتصادية كأزمة وول ستريت التي تلتها ما يعرف بفترة الكساد الكبير، لكن ما السبب يا ترى؟

إن قانون ساي لا يعترف بإمكانية حدوث الأزمات الاقتصادية من الأساس، فمن الممكن أن يكون هناك نقص في العرض أو الطلب على سلعة أو خدمة ما، بشكل مؤقت، لحين أن يعرف باقي الفاعلين الاقتصاديين بهذا النقص – بسبب شفافية المعلومة – ليسارعوا في تدارك الأمر؛ لذا فلا يمكن أن يوجد عجز في الطلب على المستوى الكلي، أي لا يمكن أن توجد أزمة في الإنتاج على المستوى الكلي .
فحسب قانون ساي، فإن العرض يخلق الطلب الخاص به، أي أنه كل ما يتم إنتاجه يجب أن يجد من يستهلكه، فكيف يمكن أن تحدث أزمة اقتصادية؟ وكيف يمكن أن يحدث كساد؟ بل كيف يمكن في ظل قواعد اقتصاد السوق التي ذكرناها سابقًا أن لا يجد بائع من يشتري سلعته؟

فما الذي حدث إذن؟

في سنة 1929 استيقظ العالم على خبر أن أسعار أسهم المستثمرين في بورصة “وول ستريت” تنهار بسبب غزارة العرض وانعدام الطلب، وهذا ما لا يمكن حدوثه حسب قانون ساي.
هنا فقد منطق الكلاسيكيين كل القدرة على تفسير سبب الأزمة فما بالك بتقديم حلول للخروج منها.

ومع ذلك ..

يبقى رواد المدرسة الكلاسيكية و آدم سميث و جون بابتيست ساي من أوائل الاقتصاديين الذين أسسوا مبادئ هذا العلم في العصر الحديث وتبقى أعمالهم و نظرياتهم هي من مهدت الطريق لمن بعدهم سواءا أكملوا طريق الدفاع عن الحرية الاقتصادية و اقتصاد السوق أو انتقدوا هذه النظرية.
وسنتطرق في المقالات القادمة للفريقين باذن الله.

Exit mobile version