العرض والطلب | السعر بين المطرقة و السندان

فوجئ المتعاملون في سوق النفط في أواخر شهر يوليو من العام الماضي بإنخفاض أسعار النفط العالمية و التي ظلت مرتفعة بشكل غير مسبوق خلال العقد الماضي، فسرعان ما تحول هذا الإنخفاض إلى موجة هبوط كبيرة ما انفكت تتسارع بشكل ملحوظ، فبرميل النفط الذي كان يباع ب 110 دولارا حتى منتصف العام الماضي و الذي جعل دول الخليج العربي تعيش عقدا من الرخاء لم تشهده من قبل، قد خسر جزءا كبيرا من قيمته بسرعة خيالية مما كبد الدول المنتجة و المستثمرين في هذا المجال خسائر كبيرة.

تحت هذه الظروف بدأ المحللون والخبراء الإقتصاديون بإبداء آرائهم حول الإنخفاض المشؤوم لأسعار النفط . و بغض النظر عن الإشارات إلى المؤامرات الكونية و الخطط الشريرة للقوى العظمى يغفل العديدون عن واحد من أهم مسببات هذا الحدث الجلل و هو إختلال توازن العرض و الطلب في هذا السوق المهم و الحيوي.

لكن دعونا أولا نلقي نظرة على المفاهيم التي ستساعدنا على تحليل الوضع الإقتصادي الذي نحن بصدده، فالعرض و الطلب مفاهيم يجد العديدون صعوبة شديدة في فهمها فهما دقيقا. لذا فلنضع مثال النفط جانبا و لنتابع هذه القصة:

في صبيحة أحد الأيام فوجئ مصطفى باللهيب الصادر من عيني زوجته و هي توبخه على نسيانه إحضار التمر و قد تم إعلان أن بداية شهر رمضان في اليوم التالي. تحسس مصطفى رقبته ثم توجه مسرعًا للسوق القريب ليجد الزحام على أشده أمام محل بيع التمور، محل واحد مقابل 20 شخصا قد تم طردهم من البيوت في المهمة المصيرية لإحضار التمر اللازم لتزيين طاولة الإفطار، فالأمر مصيري كما تعلمون!
لكن ولحسن الحظ، وجد مصطفى أن البائع تبقى لديه عشرون كيلوغراما من أحد أنواع التمور بثمن 50 جنيها للكيلوغرام الواحد، فاشترى كل من الواقفين كيلوغراما من التمر وعاد الجميع في سعادة و هناء.
بعد عدة أيام دخل صديقنا مصطفى إلى منزله كالعادة ليجد أن التمر قد نفذ فتوجه إلى السوق مرة ثانية ليتفاجأ بأن الزحام على المحل أكبر من المرة السابقة فهذه المرة يوجد حوالي 40 زبونا متجمهرين أمام المحل – لسبب مجهول يحب مصطفى حساب عدد الزبائن أمام أي محل يذهب إليه – بعد لحظات خرج البائع ليعلن أن كمية التمر المتبقي لا تتجاوز العشرين كيلوغراما، و لحل هذا المشكل عرض هو و19 زبون آخرين أن يشتروا التمر بضعف الثمن، و تحت هذا الظرف قرر البقية أن هذا الثمن غير مناسب وانصرفوا وهم يهمهمون بكلمات غير مفهومة.
بعد ثلاث أسابيع، و في ليلة التاسع و العشرين من رمضان عاد مصطفى للمحل ليشتري قليلا من التمر لآخر مرة، لكن هذه المرة كان الأمر مختلفا، فالزحام على المحل ليس كالسابق، فلا يوجد أمام المحل إلا بضعة أشخاص، و نظرا لقرب إنتهاء الشهر الفضيل و علم البائع أن زبائن المحل سيقلون بشكل ملحوظ بعد رمضان ككل مرة، قرر البائع أن يبيع التمر بخمسة وعشرين جنيها فقط، فقرر مصطفى أن يشتري كيلوغرامين بدل كيلوغرام واحد و قرر الباقون أن يشتروا كيلوغراما واحدا و أن يصرفو ما بقي في شراء شيء آخر، حلويات من أجل العيد مثلا.

قصة جميلة أليس كذلك؟
ستصبح أجمل – ربما – إذا نظرنا بشكل مختلف
دعونا أولا نقسم القصة إلى 3 أقسام و ننظر لكل قسم بشكل مخلف
لكن قبل ذلك دعونا ننظر إليها بشكل عام من جهتين :

هذه القصة حصل هناك تبادل بين مصطفى و صاحب المتجر، فمصطفى أخذ التمر و دفع لقاؤه مقابلا ماديا و هو السعر. و الذي كما لاحظنا قد إختلف في كل مرة، فما الذي جعل مصطفى يدفع سعرا مختلفا في كل مرة؟ بعبارة أخرى .. ما الذي يتحكم في سعر السلعة؟

دعونا الآن نسمى الأشياء بمسمياتها ، فنسمى البائعين بالعارضين لأنهم يعرضون سلعا للبيع، ونسمي المشترين بالطالبين لأنهم يطلبون سلعا للشراء. أما بالنسبة لمجموع كمية السلع الذي يريد مجموع العارضين بيعها بسعر محدد فنسميها الكمية المعروضة، في حين أن كمية السلع التي يريد الطالبون شراءها بسعر محدد فهي الكمية المطلوبة.

– ذهب مصطفى إلى السوق 3 مرات ليشتري نفس الكمية أي كيلوغراما من التمر (مرة قبل رمضان بيوم و مرة بعده بأسبوع ثم مرة قبل إنتهائه بيوم) لكنه في كل مرة ذهب فيها كان يجد عدد طالبين مختلف

لابد أنك لاحظت أن العلاقة بين السعر والكمية المطلوبة علاقة طردية – أي أنه كلما زادت الكمية المطلوبة زاد السعر وكلما قلت الكمية المطلوبة قل السعر – لكن السؤال الأهم هنا هو لماذا حدث ذلك؟

ببساطة لأن كل زبون من زبائن المحل مستعد أن يشتري التمر بسعر أقصى معين، فإذا تجاوز سعر السوق السعر الذي يستطيع المستهلك تحمله فهناك إحتمالان، إما أن يقلص المشتري من الكمية التي يريد شراءها أو يستغني عن السلعة بالكلية، وهو الأمر الذي حدث في المرة الثانية حيث أن 20 شخصا قرروا عدم شراء التمر، ببساطة لأن سعره أصبح أعلى مما يستطيعون تحمله، وبالتالي استغنوا عن التمر وعادوا إلى منازلهم بخفي حنين.

والعكس صحيح، فإذا انخفض السعر – كما حصل في المرة الثالثة – ترتفع الكمية المطلوبة، لكن لماذا حدث ذلك؟
ببساطة لأنه عندما يكون المستهلك مستعد لدفع سعر محدد لقاء كمية معينة من سلعة ما ثم يجد أن السلعة تباع بسعر أقل مما كان يتوقع، فإنه يبقى مع المستهلك فائض من النقود يضعه أمام احتمالين: إما أن يشتري كمية أكبر من السلعة المراد شراؤها – في المثال فضل بعض المستهلكين شراء كيلوغرامين من التمر لقاء كيلوغرام واحد – أو أن يستعمل الفائص الذي بقي له من النقود في شراء سلعة أخرى، وهو ما فعله بقية المستهلكين.

هذه العلاقة الطردية بين السعر والكمية المطلوبة يطلق عليها الإقتصاديون قانون الطلب

الأمر بسيط أليس كذلك؟ لكن للعملة وجها آخر، كيف؟

لنعد إلى صديقنا مصطفى بعد عدة شهور

لم يبق على عيد الأضحى إلا أسبوعين، فقرر مصطفى يخرج ما تحت <البلاطة> ليشتري العريس ذو القرون، وكعادته كل عام، أخرجت زوجته ملابس العيد – الحذاء القديم والسروال البني الذي لم يغسل منذ عيد السنة الماضية – و أوصته وصية كل عيد: أن يعود بالخروف أو لا يعود … اللهم سلم
انطلق صاحبنا إلى السوق، فما إن وصل إليه حتى بدأ هوايته المفضلة: العد
السوق عبارة عن ساحة كبيرة، يقف فيها عدة بائعين يعرض كل منهم خرافه، بعد دقائق من الحسابات المعقدة، إكتشف مصطفى أن السوق يحتوى عددا كبيرا من الخراف مختلفة الحجم، لكن الخراف المطابقة للمعايير الدولية المتعارف عليها من شكل وحجم – معايير منظمة المدام المتحدة – عددها 50 خروفا فقط لا غير. بعد جولة إستطلاعية اكتشف مصطفى أن متوسط ثمن الخراف المناسبة لرغبته في السوق هو 1000 جنيه، و هو ثمن أكبر مما معه، فعاد إلى البيت بخفي حنين ينتظر المصير المجهول … وإنا لله و إنا اليه راجعون.

يومين قبل العيد …

في محاولة يائسة عاد مصطفى إلى السوق، لا شيء غير معتاد .. فالزحام على حاله لم يتغير.. لكن هناك أمر مختلف … بائع جديد لم يكن موجود في المرة السابقة، هذا البائع غير الموازين بشكل ملفت حيث أن عدد الخراف المناسبة له أصبح 70 خروفا بمتوسط أثمنة يبلغ 700 جنيه، فاشترى خروفا وعاد إلى بيته ليزف الخروف إلى السطح ففرحت الزوجة والأولاد وعاش الجميع في سعادة و هناء

وهكذا نتتهي مغامرتنا مع صديقنا مصطفى وزوجته والخروف، لكن ما الذي يمكننا تعلمه من كل هذا؟
أول سؤال قد يتبادر إلى ذهننا هو: ما الذي جعل سعر الأكباش ينخفض؟
لكي نجيب على هذا التساؤل يجب علينا أن ننظر للقصة بشكل مختلف :

في هذه الحالة يلتقي العارضون – بائعوا الماشية – و الطالبون – مثل مصطفى – داخل سوق الماشية الذي يتم خلاله التبادل : السلعة مقابل السعر
لنعد إلى سؤالنا و لنقم بملئ الجدول كالمرة السابقة

لماذا انخفض السعر؟ ببساطة: لأن الكمية المعروضة ارتفعت ! لكن لماذا؟

لنضع أنفسنا في مكان البائعين، في المرة الأولى كان عدد الخراف المعروضة 50 خروفا، لكن في المرة الثانية جاء منافس جديد يعرض عددا كبيرا من السلعة التي يبيعونها، مع بقاء كل شيء على حاله، فعدد المشترين لم يتغير عن المرة السابقة، هذا يعني شيئا واحدا، أن بعضا منهم لن يستطيع بيع كل خرافه !
وضع صعب أليه كذلك؟ أخبرني إذن ماذا كنت ستفعل إذا كنت مكانه؟ نعم معك حق.

ستحاول بيع خرافك بثمن أقل، فعلى كل حال، لن تستطيع بيعها في أي وقت آخر من السنة بثمن أقل من ذلك. حركة ذكية لكن جميع الباعة قاموا بها مما جعل السعر ينخفض بشكل ملحوظ.

هذه العلاقة العكسية بين السعر والكمية المعروضة يسميها الاقتصاديون قانون العرض

هذا بكل بساطة هو أشهر قانون اقتصادي على الإطلاق : قانون العرض و الطلب !
الأمر ليس معقدا كما كنت تظن في البداية أليس كذلك؟

ملاحظة هامة
بشكل أدق، هناك فرق بين العرض والطلب والكمية المعروضة والمطلوبة، فحينما نتحدث عن العرض أو الطلب فنحن نقصد العلاقة العامة بين السعر والكمية كأن نقول قانون العرض أو قانون الطلب. أما حينما نتحدث عن الكمية المطلوبة أو المعروضة، فنحن نتحدث عن كمية محددة طُلبت أو عُرضت في وقت محدد، كأن نقول الكمية المطلوبة من في ليلة العيد هي 5 كيلوغرامات، أو أن نقول أن الكمية المعروضة في السوق من الماشية قبل أسبوعين من العيد هي 70 خروفا … و هكذا.

وصلنا الآن إلى نهاية مقالنا الأول عن قانون العرض والطلب، نأمل أن نكون قد أجبناكم عن تساؤلاتكم حول الموضوع، وللحديث بقية…

Exit mobile version