التجربة الماليزية | مقدمة

إن تحقيق النهضة الاقتصادية هو الحلم الذي يداعب مخيلة الشعوب النامية، ويكاد أن يكون العنصر الرئيسي للبرنامج الانتخابي لأي مرشح سياسي، ولكن شتان بين الأحلام والوعود وبين ما يحصل على أرض الواقع.
إن التجربة الاقتصادية الماليزية من أهم التجارب الناجحة عالميًا، وقد حظيت باهتمام ودراسة الكثير من المختصين، ولعل ذلك يرجع إلى حجم الإنجازات والنجاحات التي تمت مقارنة بالفترة الزمنية القصيرة والإمكانيات المادية والبشرية المحدودة لهذه الدولة النامية.

والحديث عن التجربة الماليزية طويل ومتشعب، ولكن ثمة نقاط رئيسية ينبغي التطرق إليها، مثل:
– دور الإرادة السياسية الوطنية.
– رسم السياسة العامة ووضع خطط التنمية.
– التعليم والتنمية البشرية.
– الصراع مع الرأسمالية الإمبريالية وقوى السوق.
– أزمة النمور الآسيوية وانهيار العملة …….. إلخ

ولعلي آثرت البداية بقضية (التعليم والتنمية البشرية) في التجربة الماليزية باعتبار أن العنصر البشري هو أهم عناصر النجاح في أي تجربة، سواء تجربة اقتصادية أو غيرها، وأعني بالتعليم هنا التعليم بمفهومه الشامل ( التعلم واكتساب المعارف والمهارات) وليس التعليم بمفهومه الأكاديمي الضيق.

قد واجه رئيس الوزراء الدكتور “مهاتير محمد” نفس المشكلات التقليدية الشائعة في الشعوب النامية مثل : انتشار الجهل والأمية، انعدام المهارات الإنتاجية، غياب روح الإبداع والمغامرة، الميل الأصيل إلى الكسل، إضافة إلى الهزيمة النفسية وانعدام الطموح والرغبة في التعلم والنهوض والتقدم؛ كانت هذه هي السمات الأساسية الراسخة في وجدان الشعب الماليزي -خاصة السكان الأصليين وهم الأغلبية الملايوية المسلمة دون السكان غير الأصليين وهم الأقلية الصينية – حتى أفرد مهاتير محمد لهذه القضية كتابا سماه المعضلة الملايوية، كما تطرق إليها أكثر من مرة في مذكراته الشخصية طبيب في رئاسة الوزراء ولعل من أمثلة ما ذكره بهذا الخصوص:

عندما كانت الدولة تخصص للأغلبية الملايوية من السكان الأصليين حصصًا وأسهمًا في صناديق الاستثمار والشركات الوطنية، بل كانت تُلزم المستثمرين الأجانب بتخصيص حصة قدرها 30% من أسهم شركاتهم للسكان الأصليين الملايويين في صناديق الاستثمار والشركات الوطنية.
وبسبب ميلهم الطبيعي إلى الكسل فقد كانوا يقومون ببيع تلك الأسهم إلى الصينين لجنى أرباحٍ سريعة بدلا من المغامرة والاستثمار وجني أرباح أكثر على المدى البعيد

وأيضًا عندما كانت الدولة تسند إلى شركاتهم الخاصة مشاريع قومية كانوا يسارعون لإسنادها في الباطن للمقاولين الصينيين، وتفضيل جنى ربح سريع من الفارق، بدلًا من تنفيذها بأنفسهم وجنى المزيد من الأرباح، أو حتى الاستفادة من الخبرات التنفيذية !
وبطبيعة الحال في أي تجربة اقتصادية، كان لزاما على مهاتير محمد أن يحتذي بتجارب سابقة ناجحة، فيذكر أنه حتى اليابان – مثله الأعلى – استوردوا التكنولوجيا في البداية، ثم عملوا على تطويرها وتعديلها، ثم قاموا بصناعة تكنولوجيتهم الخاصة في النهاية. فكان مهاتير أمام إحدى خيارين: إما الشرق أو الغرب؛ فكان الخيار الأول.

يقول في مذكراته ( طبيب في رئاسة الوزراء ص: 446):

“إن سياسة النظر شرقًا لا تعني ببساطة النظر إلى القوة التصنيعية لدى اليابان وكوريا الجنوبية – لم تكن الصين قد ظهرت كقوة اقتصادية بعد – وإنما النظر إلى العناصر التي أسست لنجاحهما. فما هي الأسس الاجتماعية والثقافية التي وفرت لهما القوة والقدرة على المنافسة ؟”

ثم استعرض بالتفصيل قضية (أخلاق العمل)، وتحدث عن الاجتهاد، والعمل الدؤوب، والروح الوطنية، والافتخار بالمنتجات، ودقة التنظيم، والمهارات الإدارية، والشمولية، والاهتمام بأدق التفاصيل في الإنتاج، حتى أنه امتدح ( ثقافة العار) اليابانية والتي تجعل الياباني يفضل الموت على شعوره بالفشل أو حتى التقصير!

ثم يلخص فكرته بقوله:

“اعتقدتُ أنه إذا أمكن حمل العمال الماليزيين على تطوير ثقافة العمل اليابانية وجعلها جزءا مكملا من عاداتهم وروتين عملهم؛ سيثمر عملهم عن منتجات تضاهي المنتجات اليابانية ) باختصار و تصرف من مذكراته

إن مهاتير محمد كان يدرك جيدا تفوق الأوروبيين ولكنه فضل التجارب الآسيوية لعدة أسباب منها: التقارب الثقافي والحضاري، رفضه للأنانية والنزعة الفردية لدى الأوروبيين وتقديمهم للمصلحة والمنفعة الفردية على الولاء للعمل والمصلحة العامة، ولعلي أضيف هنا عاملا شخصيا لنفوره من الغرب وه : كراهيته للنزعة الإمبريالية (الاستعمارية) التي تميز بها النظام الاقتصادي الرأسمالي الغربي، ورغبته المستميتة والدائمة في الهيمنة على الآخر، ونهب وامتصاص الاقتصاديات النامية.

وبناًء على ما سبق، اتجه مهاتير محمد للتوسع في بناء المدارس العليا والمعاهد الحكومية (النظرية والمهنية ) بدلا من المدارس الحكومية المحدودة أو المدارس الداخلية النخبوية، وعمل على استبدال البعثات التعليمية البريطانية ببعثات يابانية – ربما لعامل مادي أيضًا – وحثّ المؤسسات الكبرى على تخصيص منح دراسية وفنية خارجية للماليزيين، أي الاهتمام بالتعليم بصفة عامة. ثم اتجه للاستعانة بالخبرات التقنية والكفاءات الإدارية اليابانية في إدارة المؤسسات والشركات الوطنية -كالشراكة مع اليابانيين في مشروع السيارة الوطنية “بروتون” كما أشار بنفسه في أكثر من موضع من مذكراته، خاصة عند الحديث عن معارضته لخطة صندوق النقد الدولي وحتى الاستفادة من المدير الياباني السابق في شركة ميتسوبيشي في إدارة الشركة في وقت من الأوقات، وأخيرًا لا ننسى إسناده كثيرا من المشروعات الكبرى إلى الشركات اليابانية ذات الخبرة والكفاءة.

خاتمة
لا يزعم صاحب التجربة نفسه أن خطته للنهوض بالتعليم وللتنمية البشرية قد نجحت نجاحًا كبيرًا، فالطبع يغلب التطبع أحيانا! ولكن على الأقل حدثت نهضة ونقلة نوعية في الموارد البشرية الماليزية الوطنية فقد أصبح الماليزيون مؤهلين لإدارة المناصب القيادية في المؤسسات الاقتصادية الكبرى وتولي أمورها، وارتفعت معدلات إنتاج العامل الماليزي، وساهم الخبراء والفنيون والعمال الماليزيون في تطوير قطاعات اقتصادية كبيرة على رأسها: القطاع المالي والمصرفي، قطاعات النفط والطاقة والمقاولات والسيارات والتكنولوجيا …… إلخ ، ليس في ماليزيا وحدها ولكن في العديد من الدول الخارجية : مثل مشروعات الحفر والتنقيب والتكرير التي دشنتها عملاقة النفط الماليزي ( بتروناس ) في إفريقيا والخليج.

Exit mobile version