هكذا تحدث الأشياء (4) | خرافة المقايضة

هذا المقال هو الجزء الرابع من سلسلة المقالات التي بدأت بالحديث عن قصة أحمد في الجزيرة المنعزلة التي لا نقود فيها. إذا لم تكن قد قرأت المقالات السابقة بعد، ننصح بشدة بقراءتها قبل العودة لإكمال هذا المقال.

تحدثنا في سلسلة المقالات هاته عن الاقتصاد النقدي باستخدام القصة التي يستخدمها معظم الاقتصاديين في شرح أصل النقود وكيفية ظهورها وتطورها، لكن هدفنا لم يكن السير مع التيار، بل منحك رؤية نقدية للموضوع ومحاولة تحليله من زاوية مختلفة، تمهيدًا لما سيأتي من الحديث عن النقود التي نستخدمها اليوم.

كان آدم سميث من أوائل الاقتصاديين الذين أشاروا إلى أهمية الانتقال من اقتصاد المقايضة إلى اقتصاد التبادل، حيث اعتبر أن الخاصية الأساسية لهذا الانتقال الاقتصادي هي: النقود، حيث استخدم نفس المنطق الذي استخدمناه في قصة أحمد.

كان الناس يعيشون في اقتصاد الكفاف الذي يعتمد فيه كل فردٍ على نفسه ليلبي حاجاته الأساسية، ثم بدأ الناس في التجمع في مجتمعات صغيرة وبدأوا في التبادلات التجارية عن طريق المقايضة. ومع الوقت، ظهرت عيوب كبيرة للمقايضة، واضطر البشر بذلك إلى اختراع النقود.

استعمل الناس سلعًا مختلفة كبديل للتبادل (النقود) ليتفقوا في النهاية على المعادن الثمينة كأفضل شكل ممكن للنقود، بحيث تحل هذه الأخيرة المشاكل التي تطرحها المقايضة من جهة، وتحقق كذلك الخصائص الثلاث للنقود (مخزن للقيمة – مقياس للقيمة – وسيط للتبادل) من جهة أخرى. وبعد ظهور الدول، تم اعتماد أوزان وأشكال معينة لهذه المعادن، لنصل إلى العملات المعدنية السهلة الحمل والنقل.

ظهور النقود حسب آدم سميث كان واحدًا من أهم أسباب التقدم الاقتصادي للبشر؛ فاستعمال النقود أدى إلى ظهور أمرين ساهما بشكل كبير في نجاح الثورة الصناعية، وهما:

أما ابتكارها، فلم يكن نتيجة لذكاء البشر وحكمتهم، فآدم سميث يؤكد بشكل صريح أن ابتكار النقود هو جزء من الطبيعة البشرية!

[bs-quote quote=”إن تقسيم العمل، الذي جلب للبشر منافع كبيرة، لم يكن في الأصل نتيجة للحكمة البشرية، لكنه كان نتيجة ضرورية لميل معين في الطبيعة البشرية لتناقل، مقايضة وتبادل شيء مقابل شيء آخر ” style=”style-2″ align=”center” author_name=”آدم سميث” author_job=”الفصل الثاني من الجزء الأول من كتاب ثروة الأمم ” author_avatar=”http://www.abeqtisad.com/////wp-content/uploads/2018/05/آدم-سميث.jpg” author_link=”https://www.marxists.org/reference/archive/smith-adam/works/wealth-of-nations/book01/ch02.htm”][/bs-quote]

قصة اختراع النقود هذه كانت هي حجر الأساس الذي بنى عليه الاقتصاديون نظرياتهم بخصوص النقود، لدرجة أنه من المؤكد أنك ستجد شكلًا من قصة أحمد في الجزيرة المنعزلة في كل الكتب الاقتصادية الموجهة لطلبة الاقتصاد عندما تتحدث عن النقود. فمهما بلغت اختلافات الاقتصاديين حول كل شيء تقريبًا، إلا أنهم اتفقوا على هذه الرواية في الأغلب.

السؤال هنا: إذا كان الاقتصاديون متفقين على أن النقود السلعية (كالأصداف) كانت هي بداية ظهور النقود، فماذا عن الحل الثاني الذي اقترحه أحمد على قائد القبيلة؟

قصة المقايضة وما نتج عنها من ظهور النقود وفوائدها قصة اتفق عليها علماء الاقتصاد، لكن هناك علماء آخرين لهم رأي آخر، إنهم علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) حيث يزعم علماء الأنثروبولوجيا كالعالم الأمريكي ديفيد جريبر David Graeber أنه في المجتمعات البدائية التي لم يعتمد النظام الاقتصادي فيها على النقود، لم يكن الناس يستخدمون المقايضة!

رغم عدم استخدام الناس المقايضة إلا أنهم كانوا يجدون طرقًا للقيام بالتبادلات التجارية.

فحسب كتاب غريبر المعنون بـ : الدَّين: أول 5000 سنة / (Debt: the first 5000 years). فالمقايضة هي مجرد خرافة! قصة يحكيها علماء الاقتصاد لطلابهم في المحاضرات والكتب، ولأطفالهم قبل النوم. وحسب هذه النظرية، فإن كل التعاملات التجارية بدأت بالمقايضة “سأعطيك ثمرتين مقابل سمكة، هل توافق على ذلك؟ “. هذه الطريقة في التبادل خلقت مشاكل عديدة كما ذكرنا، لأنه من الممكن أن جارك لا يريد ثمارك الآن، وهذا ما جعل البشر يخترعون النقود.

علماء الأنثروبولوجيا يعارضون هذه القصة بشدة، والسبب ببساطة؛ أنه لا يوجد دليل واحد عليها! فالعلماء يبحثون عن أصول هذه القصة منذ 1776 – العام الذي نشر فيه كتاب ثروة الأمم – لكنهم لم يجدوا دليلًا واحدًا يؤكد هذه الرواية، فكيف يُعقل أنه برغم عدم وجود دليل واحد واضح على حدوث المقايضة في مجتمع بدائي ما، إلا أننا لا نزال نعتقد أن هذا هو الذي حدث حقًا، فقط لأنها قصة منطقية مريحة!

ما كان يحدث فعلا، وهو ما استنتجه علماء الأنثروبولوجيا عندما لاحظوا كيف كان الجيران في المجتمعات القديمة يقومون بالتبادل، أنه عندما تريد سمكة اصطادها جارك، ما عليك إلا أن تذهب عنده وتقول” يا لها من سمكة طازجة، من المؤكد أنها ستكون لذيذة جدا” فيرد عليك ويقول ” تريدها؟ خذها! إنها لك” وستصبح حينها مدينًا لجارك بمعروف.

المقايضة كانت تحدث فقط إذا أراد الناس القيام بتبادلات مع أشخاص لا يعرفونهم (من قرى أخرى) أو مع أعداء لهم. أما في غالب الأحيان، فالناس كانوا يعيشون في تجمعات صغيرة يثق فيها الناس ببعض، فيمكنهم حينها أخذ ما يريدون من جيرانهم ليقوم جيرانهم برد المعروف بعدها، فلا حاجة هنا لتبادلات آنية يدًا بيد، أنت تعطيني هذه السلعة، وأنا أعطيك ما يقابلها الآن (لقد كان الناس ببساطة يبيعون بأجل!) وبما أن الناس يعرف بعضهم بعضًا، فقد كانوا يوافقون على إعطاء ما يفيض عن حاجتهم لمن يحتاجونه على أمل أن المعروف (الدين) سيتم سداده  بقيمة مماثلة.  

وبالتالي ففي ظل وجود مجتمعات صغيرة يعرف الناس بعضهم، فالجميع مدينون لبعضهم البعض، ولا حاجة لاستخدام النقود. وأكثر ما كان الناس يحتاجونه حينها إذا كبرت التجمعات هو طريقة لتسجيل هذه الديون.

إذًن السؤال الذي يجب علينا طرحه ليس عن كيفية تحولنا من المقايضة إلى إيجاد وسيط ما للتبادل (الأصداف في قصة أحمد) ليتحول بعدها هذا الوسيط إلى نقود، لكن السؤال المهم هو:

كيف تحولت تلك العبارة الفضفاضة “أنا أدين لك بواحدة” إلى نظام دقيق لقياس القيم: أي النقود بوصفها معيارًا للقيمة، ماهي العلاقة بين الديون والنقود؟

ببساطة، النقود تصلح لجعل الواجب الأخلاقي “شكرا، أنا مدين لك بمعروف” إلى شيء ملموس كـ “شكرا، أنا مدين لك بعشر دولارات”، النقود تمكننا من إعطاء قيم محددة للمعروف.

يعطي غريبر مثالًا تاريخيًا عن هذا بالاقتصاد السومري في بلاد الرافدين (العراق حاليًّا) فالاقتصاد السومري كانت تهيمن عليه مجمعات كبرى من المعابد والقصور، والتي بدورها كانت مأهولة بالآلاف من الكهنة والموظفين والحرفيين والمزارعين والرعاة، ورغم أن سومر القديمة كانت عبارة عن مجموعة من المدن المستقلة، لكن بمجرد توحيدها وظهور الحضارة السومرية في شكل دولة كبيرة حوالي 3500 سنة قبل الميلاد، فقد أصبح لمديري المعابد نظام موحد لحساب القيم والديون.

كانت العملة الرسمية حينها هي “الشيكل” الفضي الذي كان يزن مكيالًا (كان يدعى بوشل) من الشعير، كان كل شيكل مقابلًا لـ 60 “مينا” حيث أن كل “مينا” تقابلها حزمة من الشعير، على أساس أن الشهر به 30 يومًا وأن عمال المعبد كانوا يحصلون على حزمتين من الشعير كأجر يوميٍّ، أي 60 حزمة من الشعير شهريًا، أو ما يعادل شيكلًا فضيًا واحدًا.

من الواضح هنا، أن آهل سومر لم يبتكروا الشيكل لحل مشكل المقايضة، لكن البيروقراطيين العاملين في المعابد اخترعوا هذه العملة من أجل تتبع الموارد ونقلها بين مختلف الإدارات، فمن الأسهل أن أقول إن أجر 500 عامل هو 500 شيكل بدل أن أقول إن أجر 500 عامل هو 30 ألف عملة من الشعير، استعمال الشيكل لحساب الأجور كان عمليًا جدًا.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الشيكل لم يتم التعامل به خارج المعابد. فرغم أن الأجور والديون كانت تحسب بالشيكل الفضي إلا أنها لم تكن تؤدي لاستخدامه، فإذا أقرضت جارك ما يقابل شيكلًا واحدًا، فيمكنه ببساطة أن يرد لك الدين بشيء مساوٍ له في القيمة، ونفس الأمر بالنسبة للتبادلات التجارية.

الشيكل كان معيارًا للقيمة فقط وليس وسيطًا للتبادل. هذا هو نفس الاقتراح الذي اقترحه أحمد على قائد القبيلة في المقال السابق، حيث اقترح أن يتم تقييم الديون بواسطة الأصداف بدون استعمالها في التبادل.

فائدة النقود هنا هو أنها تجعل الالتزامات الأخلاقية (أنا أدين لك بمعروف) قابلة للقياس العددي، وبالتالي يمكن بيع هذه الديون (كما يمكن بيع السندات كأوراق مالية في البورصة)، فالنقود إذن لا تمكننا من تحديد مقدار الدين فقط بل تجعله قابلًا للتحويل، بل وحتى قابلًا لإضافة فائدة عليه (ربا).

ظهور الدول والإمبراطوريات كان له دور كبير في ظهور النقود المعدنية، فبفضل هذه النقود يمكن للملوك أن يدفعوا أجور جنودهم عوضًا عن وعدهم بتقسيم الغنائم الذي يكون غير عملي في العديد من الحالات، ولأن الجنود لن يقبلوا أن يتم دفع أجورهم بأجل، فهم لا يضمنون عودتهم من الحرب أصلًا!

لكن هناك مشكلة أخرى، وهي أن القطع النقدية التي سيحصل عليها الجنود يجب أن يقبلها الجميع كوسيلة للتبادل وإلا فلن تكون لها قيمة، وهنا يأتي دور الضرائب لتضع حجر الأساس الأخير للنظام النقدي المبني على المعادن الثمينة.

قصة قصيرة
أنت ملك/إمبراطور وتريد جيشًا يحميك ويوسع دولتك، لكن ما المقابل الذي سيقبله الجنود؟ اجمع كمية كبيرة من المعادن، اصهرها ثم اصنع منها قطعًا صغيرة عليها اسمك وصورتك.
تقابلك مشكلة أخرى، ما الذي سيعطي قيمة لقطع المعدن المزخرفة هاته؟ افرض ضرائب على الناس، وقل لهم أن الضرائب يجب أن يتم دفعها باستخدام قطع المعدن المزخرفة فقط، بهذه الطريقة يقبل الناس بالقطع المعدنية كمقابل لما يملكون ليدفعوا الضرائب، ويجد الجنود من يقبل منهم القطع المعدنية التي أعطيتهم إياها نظيرًا لحمايتهم لك وتوسيعهم إمبراطوريتك.
الإمبراطورية تمتد بعد احتلالك لأراض جديدة، تحتاج مزيدًا من المعدن، ماذا تفعل؟ تبحث عن مناجم، لكن هناك مشكلة أخرى! من سيعمل في هذه المناجم ويخرج المعادن التي فيها؟
ألم تقم باحتلال مجموعة من القرى وأسر من فيها؟ اجعلهم يعملون في المناجم بالقوة! مبروك! لقد اخترعت العبودية!
دولة نظامية، فجيش نظامي، فنقود نظامية، فضرائب نظامية، فعبودية نظامية. كل شيء منظم! إن هذا لنظام كبير ومعقد ومتشابك، من يهتم إذا كان عادلًا أم لا؟ ومن سيستطيع محاسبتك يا جلالة الإمبراطور؟

تعتمد خزينة الدولة على التعدين، ويعتمد الجيش على خزينة الدولة، فمن يمتلك الجيش والخزينة يستطيع احتلال العالم

ــــ الأرثيسيترا  (The Arthashastra) وهو دليل سياسي كتبه الوزير كاتيليا (Kautilya) لسلالة موريان الهندية (Mauryan Empire)

ظهرت النقود بظهور الدولة، تخدمها وتستلهم قيمتها منها، فلا دولة بلا نقود، ولا نقود بلا دولة، لكنها لم تظهر بالشكل الذي أخبرنا الاقتصاديون به، فلم تكن النقود نتيجة لمشاكل المقايضة وإنما كانت نتيجة لظهور الدولة والجيوش كما ذكرنا.

أي الروايتين أقرب للحقيقة؟ هذا ليس هدف هذه السلسلة، لكن هدفها هو أن تعطيك رؤية كاملة تستطيع من خلالها فهم النقود. فسواء كان آدم سميث ومن تبعه محقين أم لا فإن ذلك لا يغير من حقيقة النظام النقدي الذي نستعمله اليوم.

هدف هذه السلسلة هو أن توضح حقيقة النظام النقدي الذي يسيطر على اقتصادنا المعاصر، حيث سننتقل من الحكايات والنظريات التي تحاول تفسير ماضي النقود، وسنعوضها بالحقائق التي توضح حاضرها، فانتظروا المقالات القادمة!

المصادر 

مصادر استخدمناها في السلسلة حتى الآن 

Michael McLeay, Amar Radia and Ryland Thomas (2014a). “Money in the modern economy: an introduction“. Quarterly Bulletin – Bank of England
Michael McLeay, Amar Radia and Ryland Thomas (2014b). “Money creation in the modern economy“. Quarterly Bulletin – Bank of England

مصادر خاصة بهذا المقال 

David Graeber (2011). “Debt: the first 5000 years“. Melville House Publishing
John Green (2014). “Money & Debt: Crash Course World History“. Crash Course
Yves Smith (2011). “What is Debt? – An Interview with Economic Anthropologist David Graeber“. Naked Capitalism
Exit mobile version