الاقتصاد النقدي

هكذا تحدث الأشياء (3) | النقود كدَين

هذا المقال هو الجزء الثالث من لسلة المقالات التي تتحدث عن قصة أحمد في الجزيرة المنعزلة التي لا نقود فيها.  إذا لم تكن قد قرأت المقالين السابقين بعد، ننصح بشدة قراءتهما قبل العودة لإكمال هذا المقال.

    يُنهي الابن واجباته المدرسية ويتوجه مسرعًا نحو أبيه، لكن هذه المرة يجلس في مكانه المعتاد دون أن يقول شيئا. نظر الأب إلى ابنه مبتسمًا ثمّ قال:

  • تريد إكمال القصة. أليس كذلك؟ هل قمت بكل واجباتك المدرسية؟
  • نعم يا أبي! (بصوتٍ يملأه الضجر)
  • أمري لله! أين تركنا أحمد المرة السابقة؟
  • وهو في مجلس القبيلة على وشك أن يخبرهم بالحل الثاني الذي يمكنه إخراجهم من مشاكل المقايضة.
  • نعم تذكرتُ، لنكمل إذن.

يجلس أحمد في مكانه المعتاد وحوله رجال القبيلة ثم يقول:

  • تريدون معرفة الحل الثاني؟ حسنًا.

 الحل هو: ألّا تقوموا بالمقايضة “مبتسمًا كأنه يعرف رد فعلهم مسبقًا”

  • عدم المقايضة؟ كيف يمكن ذلك؟ وكيف سنقوم بمبادلة فائض ما ننتج؟ “يرد قائد القبيلة متعجبًا”
  • بالطبع كلكم تذكرون مشكلتي مع الصياد أليس كذلك؟ وأنه في الأيام الممطرة لا يستطيع الصيد فيحتاج بعضًا من ثماري لأكْلِها عوضًا عن السمك.
  • نعم “يرد الحاضرون في آنٍ واحد”
  • الحل ببساطة أنه إذا جاءني الصياد في أحد هذه الأيام الممطرة طالبًا فائض ثماري سأعطيها له بدون مقابل؛ فأنا لا أحتاجها أصلًا!
  • ستعطيها له مجانًا؟ ماذا ستستفيد أنت؟ وكيف ستحصل على ما تريد؟ ألست أنت من اشتكى من هذه المشكلة في البداية “يرد قائد القبيلة غاضبًا”
  • نعم دون مقابل، أو بمعنى أصح دون مقابل فوري. فالصياد صديقي وأنا متأكد أنه سيرد لي الجميل يومًا ما، ولن يتردد في إعطائي بعضًا من أسماكه إذا طلبتها عرفانًا بالجميل. “ينظر الحاضرون إلى بعضهم وعليهم علامات التعجب، ويكمل أحمد الحديث”
    بهذه الطريقة نستطيع التبادل أنا والصياد؛ بحيث أعطيه بعض الثمار اليوم على أن يرد لي المعروف في يوم آخر بأن يعطيني بعضًا من أسماكه. في هذه الحالة نستطيع تبادل الأشياء بيننا دون الحاجة إلى أن يريد كلٌ منا ما ينتِجه الآخر في نفس الوقت؛ فإن لم أكن في حاجة إلى أسماك الصياد اليوم فمن المؤكد أنني سأحتاجها في يومٍ آخر، ولأنني أعرف الصياد جيدًا وأثق به فمن المؤكد أنه لن يرفض إعطائي بعض الأسماك في يوم آخرعرفانًا بالجميل، وهكذا تتم التبادلات بسهولة أكثر؛ بأن يعطي أحدنا الآخر ما يحتاجه في يوم، وأن يأخذ مقابل ذلك في يوم آخر ولا حاجة لنا بالنقود في هذه الحالة.
  • وماذا إذا حدث خلاف؟ ماذا إذا أعطيت الصياد ثمارك وعندما طلبت منه بعض الأسماك بعد شهر رفض إعطاءك إياها وأنكر إعطاءك بعضًا من ثمارك له. أو حتى نسي أنك أعطيته ثمارًا؟ ستكون أعطيت ثمارك مجانًا ولم تأخذ شيئًا بالمقابل “يرد قائد القبيلة”
  • الأمر بسيط؛ أولًا: أنا أعرف الصياد منذ فترةٍ طويلة فكلانا تحطّمت به نفس الطائرة ونجا بأعجوبة وقد كوننا بسبب ذلك صداقة قوية، أنا أثق به ولا أظن أنه سينسى معروفًا أسديته له. أما عن احتمال أن ينسى الثمار التي أعطيته إياها؛ فيمكننا ببساطة أن نتوجه عند إعطائي الثمار له لأحد أفراد القبيلة يكون معروفًا بذاكرته القوية وأخلاقه الحميدة بحيث يثق كلانا فيه ليكون شاهدًا على المعروف. فلا يمكن أن ينسى الجميع نفس الأمر! ونتوجه إليه إذا حدث خلاف، ويمكن أن يقوم كل أفراد القبيلة بنفس الأمر، حيث نختار هذا الشخص ليسجل كل التبادلات التي قمنا بها انتظارًا لرد الجميل في يومٍ آخر.
  • ماذا عن الأسعار؟ كيف سنحددها في نظامك هذا؟ ألم تحدثنا طويلًا عن سلبيات التعامل بالأسعار النسبية؟ “يسأل قائد القبيلة مجددًا”
  • هذا أمر بسيط أيضًا، يمكننا أن نسَعّر كل شيءٍ بنظام الأصداف نفسه. فإذا أعطيتُ الصياد ثمارًا بقيمة صدفتين فإنه سيرد لي الجميل بأن يعطيني أسماكًا بنفس القيمة في يوم آخر؛ هكذا حللنا مشكلة ضرورة وجود صُدفة ازدواج الاحتياجات ومشكلة نظام الأسعار. هل هناك اعتراض آخر؟ “يسأل أحمد مبتسمًا’

يصمت قائد القبيلة لبرهة، يتذكر كل المجهود الذي بذله في تطبيق نظام الأصداف (الحل الأول الذي اقترحه أحمد) وفي السُلطة الإضافية التي ستصبح في يده إذا ما كان مسؤولًا عن جمع النقود الجيدة وتوزيعها، وفي الفرصة التي ستضيع عليه إذا ما تم تطبيق الحل الثاني، ثم قال بشيء من الحدة:

  • لا، النظام الأول أفضل بكثيرٍ من هذا الحل الذي تقترحه. لقد جمعنا الأصداف ووضعنا عليها علامة مميزة (وكانت نقشًا على الأصداف عليه اسم قائد القبيلة) لكي لا يتم استخدام أصداف لم نوافق عليها؛ لا داعي لتغيير شيء. النظام الأول يفي بالغرض ونشكرك على اقتراحك.
  • لكن دعني أُكمل لك “يرد أحمد” فالحل الأول به عيوب كبيرة. ماذا إذا احتجنا أصدافًا أكثر من الموجودة في هذه الجزيرة؟ ماذا إذا أخطأت التقدير في الأصداف التي تضع علامتك عليها وزاد عددها عمّا يحتاجه سكان الجزيرة؟
  • وأنا اتخذت القرار وحسمت الأمر! لن تعرف مصلحة القبيلة أكثر مني!!

ينظر الحاضرون إلى بعضهم البعض دون أن يجرؤ أحد منهم على معارضة زعيم القبيلة. يعتذر أحمد ويخرج مسرعًا من مجلس القبيلة .

  تمر الأيام وقد عيّن رئيس القبيلة بعض المقربين منه لإدارة النظام النقدي في القبيلة، وقد بدأت الأمور  ترجع إلى سيرها الطبيعي وبدأ النظام الجديد في الاستقرار، وفي أحد الأيام وأحمد جالس في مكان منعزل يأتي الصياد وهو يتصبب عرقًا!

  • النجدة، الشاطئ، طائرة، لقد نجونا!
  • هدّئ من روعك! فأنا لم أفهم شيئًا مما قلت!
  • بينما كنت أصطاد، رأيت طائرةً تحلّق في السماء على مستوى منخفض يبدو أنها كانت تبحث عن حُطام الطائرة التي تحطّمت بنا، وهي الآن على شاطئ الجزيرة. هيا يا أحمد، بسرعة! فنحن عائدون إلى الوطن.

تحلّق الطائرة بعيدًا عن الجزيرة، وقد حملت معها أحمد وصديقه الصياد.

  • لقد كانت تجربة غريبة! “يخاطب الصياد صديقه”
  • غريبة؟ لقد كنتُ على وشك أن أصبح وزيرًا للاقتصاد! “يقولها أحمد مازحًا ثم يصمت فجأة”
  • لكنك قمت بعملٍ جيد بالفعل. لقد أريتهم كيف يستخدمون النقود. صحيح أنها مجرد أصداف وليست كالنقود التي نستخدمها في الوطن، لكن أنت تعرف طبعًا كيف ستقلب فكرتك الجزيرة رأسًا على عقِب. لقد أنرت لهم طريق التقدم الاقتصادي وأريتهم البداية.
  • البداية ؟ نعم بداية النهاية!

ينظر أحمد إلى نافذة الطائرة ليرى الجزيرة تبتعد أكثر فأكثر، ويطرق رأسه في حزن، ماذا فعلت يا أحمد!

هكذا تنتهي رحلتنا مع أحمد، حيث تعرّفنا على كيفية إنشاء النقود؛ فالاقتصاديون يزعمون أنه مع تطور البشر وتحولهم من جامعي ثمار أو صائدي حيوانات إلى اكتشافهم الزراعة ونشأة المدن والمجتمعات، أصبحت عمليات التبادل أكثر تعقيدًا؛ مما جعل النقود تظهر على شكل نقود سلعية تطوّرت لتحتكرها المعادن الثمينة. وعند قيام المدن والإمبراطوريات والدول، تمّ سك هذه النقود لتتحول للشكل الذي هي عليه اليوم.
قصة جميلة أليس كذلك؟ فقد ساعدتك  على فهم النقود بشكل أكبر بلا شك.
الجميل فيها أنها منطقية، تبدأ باقتصادٍ بدائي بلا نقود ومليء بالمشاكل (كالحال الذي وجد عليه أحمد الجزيرة) إلى الحياة في اقتصادٍ نقدي تسهُل فيه التبادلات وتتحسن فيه ظروف الناس بفضل النشاط الاقتصادي الذي أصبح أسهل بكثير (كالاقتصاد المعتمد على الأصداف كنقود).
لكن هل هذا ما حدث حقًا؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم بإذن الله.
أما إذا كنت في شكٍ من فعالية الحل الثاني الذي عرضناه في هذا المقال فدعني أخبرك أن هذا النظام لا زلنا نستخدمه إلى اليوم والأمر ليس غريبًا على الإطلاق، فالنقود الرسمية التي نستخدمها اليوم تعتمد بشكل كاملٍ على الديون (وسنفصّل هذا الأمر في المقالات القادمة)، بل إن النظام مغروسٌ بعمق في حياتنا اليومية. ألا تتذكر صحن الحلوى الذي كانت تعطيه لك أمك لتأخذه لبيت الجيران؟ أكان الصحن يرجع فارغًا؟ إنه دينٌ دون أن يكون دينًا، وهدية دون أن تكون هدية، وهكذا يا صديقي..”تحدث الأشياء”.

أحمد كشيكش

أحمد كشيكش - مسؤول فريق المحتوى التعليمي : مدون و طالب باحث في العلوم الاقتصادية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى